تفرِّقُ الشريعة الإسلامية بين الخبر وبين الشهادة، فالخبرُ إبلاغٌ عن أمرٍ عامٍّ، لا يختصُّ بشخصٍ بعينه، بل يتعلَّق بعموم الناس، مثل أن يُخبرَ أحدُ الصحابة الكرام أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات» ومثل أن يُخبر أحد التابعين عن أحد الصحابة الكرام أنه قال له كذا، أو أن يُخبرُ الواحدُ منا أن غيره أخبره بخبر من الأخبار العامة، أي التي لا تتعلَّق بخلاف أو خصومة بين طرفين، أما الشهادة فهي إبلاغٌ عن أمرٍ خاص بشخصٍ معيَّن، فيُبلغُ الشاهدُ القاضي بأنَّ فلانا إقترض من فلانٍ مائةَ ريال، أو أن فلانا ضرب فلانًا أو أخذ مال فلان، فالشهادة خاصَّةٌ بشخصٍ بعينه، يترتَّبُ عليها أنْ يعاقِب القاضي المشهودَ عليه بعقوبةٍ، أو أن يُلزِمه بدفع مالٍ، بخلاف الخبر الذي لا يلزَم منه معاقبة أحد، وقد فرَّقَت الشريعةُ بين الخبر والشهادة من حيث القبول والرد، فاكتَفَتْ في الخبر بإخبار مُخبِرٍ واحد، رجلًا كان أو امرأةً، أما الشهادةُ فيُشتَرط في قبولها أن يرويها رجلان اثنان، أو رجلٌ وامرأتان، فلم تكتفِ برجلٍ واحد ولا بامرأة واحدة، ففي الخبر المرأةُ والرجلُ سواسية، فالخبر الذي يُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن غيره، يُقبل إذا كان الراوي ثقةً عدلًا، سواءٌ في ذلك أن يرويه رجلٌ أو أن ترويه امرأة، فخَبَرُ المرأة بمنزلة خبر الرجل، وَوَزنُ رواية المرأة مساوٍ لِوزن رواية الرجل، وهذا معنى قول الإمام الشافعي رحمه الله: أقبلُ في الحديثِ: الواحدَ والمرأةَ، ولا أقبلُ واحدًا منهما وَحْدَهُ في الشهادة.
ومن أجل ذلك نجد الكثير من الأحاديث الشريفة تحمل في سندها أسماء كثير من النِّساء الصحابيات، ومِمَّن جاء بعدهنَّ من التابعيَّات ومَن بعدهن، ويُلاحظ أنه يُشترط في المرأة لِنحكم بصحَّة ما ترويه مِن أخبار، ما يُشترط في الرجل بلا تفرقة بينهما، قال القاضي أبو الوليد الباجي: وإذا كان من باب الخَبَر، فيجبُ أن يُقبلَ قولُ المرأة الواحدة في كلَّ شيء. ووجْهُ التفريق بين الخبر والشهادة، أن الشهادة تحتاج إلى مزيد تَحَر وإحتياطٍ، فالشاهدُ يشهدُ على غيره أو يشهد لغيره، وينبني على هذه الشهادة أخذ مال من أحد المتخاصمَين أو إنزال عقوبة بأحدهما، ويُتوقَّع أن تكون بين الشاهد والمشهود عليه عداوةٌ، وقد لا يعلم القاضي بوجود هذه العداوة، فالشاهدُ قد تحمله عداوته للمشهود عليه أن يكتم شيئًا من الحق، فضلًا عن أن يشهد بالباطل، وربما حمله مزيد حبِّه للمشهود له على الجَوْر في الشهادة، بخلاف الخبر، فمن روى خبرًا وكان عدلًا وثقةً، فيُقبل قولُه، لأنه لا مصلحة له في معاداة كلِّ الناس، ثم إنَّ الشريعة فرَّقت تفريقًا آخر بين شهادة المرأة وبين شهادة الرجل، فجعلت شهادة الرجل أقوى من شهادة المرأة في كثير من المواضع، وجعلت شهادة المرأة أقوى من شهادة الرجل في مواضع أخرى كالأحوال التي لا يَطَّلعُ عليها الرجال غالبًا، ومثلها التي لا يَلتفتُ إليها الرجال كالرضاعة، فالمصلحة هنا تقتضي تقديم شهادة المرأة على شهادة الرجل، أما في الجنايات وما جرى مجراها من الجراح، فإشترَط الشرعُ أن يكون الشاهد فيها رجلًا، ولم يَقبل شهادةَ المرأة، وليس ذلك إسقاطًا للثقة فيها، ولا إنتقاصًا لها، وإنما من باب الإحتياط في إقامة الحدود، درءًا للحدود في النُّفوس، فالحكم في الجنايات يجب أن يُحتاط فيه، فلا نَقضي إلا بالبيِّنات الواضحات، وقد أعطى الله المرأةَ من العطف والحنان ما قد يحول بينها وبين أن تشهد بما يؤذي غيرَها، وربَّما غَلَبَتْها عاطفةُ القرابة والرَّحم فأخفَتْ بعض الحقيقة لغلَبَة محبَّتها لقرابتها، فكلُّنا يعلم أن نزاعًا يقع بين طفلين لامرأتين سيترتَّبُ عليه أن تَحكمَ كلُّ واحدة منهما لِوَلَدِها، لِغَلَبَة عاطفة الأمومة، ولن تحكم عليه، ولنا أن نضيف إلى هذا أن المرأةَ عادةً لا تملك من الجسارة ما يجعلها تنظر إلى واقعةٍ جنائية من جريمةِ قتلٍ أو غيرها، ثم تقف وَتشهد المشهد بكامل تفاصيله، ولضيق المساحة أكمل الحديث في عدد يوم غدٍ الأحد.
الكاتب: د.قيس المبارك.
المصدر: صحيفة المدينة.